المشاركات

الأرض المجهولة

صورة
في صبيحة إحدى الأيام، خرجنا أنا وأخي لنتسكّع حول البساتين، تلامس الرمال الناعمة أقدامنا، وتداعب أشعة الشمس الدافئة أجفاننا، نتأمل البساتين الأخاذة كثيفة الشجر والثمر، نأنس بمنظرها، ونطرب لشدوها.. نقضي جلّ الصباح في زيارة البساتين، نسلم على أصحابها، نأخذ أخبارهم، لا يفوتنا في القرية أيّ شيء قديم أو مستحدث.. نعرف القرية كمّا نعرف أنفسنا، لكنّ يفوتنا معرفة بعض أراضيها المجهولة، وكانت إحداها محط نظر وجذب، بمجرد المرور عليها تحفنا المهابة، نتجمد، كأن رؤوسنا الطير ممّا نشهد.  أقول لأخي -بعد تكرر المشهد- : ألاّ نكسر حاجز الخوف ونلج؟ : لكننا لا نعلم لمن هي؟ أجيب: هذا أجمل ما في الأمر، ندخل ونخرج بهدوء. برحابة عالية يوافق، لا يطيل النقاش، لا يفكر في الأسباب، لا يفسر أسباب انصياعه السريع، لم يفسر أحدنا للأخر سر رغبته، نجاري رغباتنا بالمسير نحو الوجهة، نمشي في وتيرة واحدة نحو البستان، القابع في أخر الطريق، طريق غير معبد كحال أغلب الطرق في القرية.. في أثناء مسيرنا، أمعن النظر في تفاصيل البساتين الممتدة عن يميني وشمالي، صغيرة كانت أم كبيرة، قليلة الشجر أم كثيفة..  هذه الجنّان التي أبدعها الخالق، وم

ما لم تقله الباسقة.

صورة
  في الفضاء الشاسع تبتلع الرمال كل الأشياء، تغطي عرض الصحراء الكبرى، ظاهرها كباطنها السحيق، يحسه المرء كلما توغل في أعماقها، أكثر جمالًا واكتمالًا. دفعني الفضول لاكتشفها، فتنقلت في نواحيها منفردًا، أجوب ما قدرني الله أنّ أجوبه، فاحصًا إياها بعين فكري، أتلقى ما توحي به من معانٍ مجردة.. هي المتجردة من كل مظاهر العمران الكاذبة، كل نبوءة تكشفها، صادقة. لم تبح بها لأي أحد. تمرّ أيام، تحن فيها الصحراء على الوحيد المنفرد، تكشف أسرارها في هدوء محبب، أحدق في السماء، يصفو الذهن، يتطهر من أدرانه، منظر السماء مرصعة بالنجوم، والأرض الفسيحة الممتدة، والرمال الناعمة.. السماء والأرض وهما يتقاطعان في بعدٍ واحد، لا نهاية له تحت مرأى العين.  صورة بها من التفاصيل ما يأخذ  بمجامع القلب. ثم تأتي تلك الأيام، فتقسو بشدة، أفقد حواسي من كثرة الأوهام، تتوه دروبي، ويأخذ الخوف يتدفق في روحي، كمن لم تطأ قدماه صحارٍ من قبل.. أرى نفسي مسكينًا شقيًا، تسلب مني بوارق الأمل؛ في إيجاد ما يشبه الحياة في هذا الشاسع. يثار السؤال "ألاّ تتفجر حياة من الجرداء المقفرة؟" ***     أسير هائمًا على وجهي، تزحف الكثبان نحوي،

لم تكن يومًا نهاية.

   مضى على عملي في إحدى المدارس العالمية شهرين ونيف، بعد انقطاع عن الحياة الاجتماعية، أسحب لزخم الحياة، في مكان يكتظ بالأرواح.. يخيلّ إلي أنّ الصمت الذي لازمني شهورًا طويلة، ستنقض عليه حيوية هذه الأرواح؛ لكنه ازداد حدة.  للصمت السطوة الأكبر، يطبق -في أكثر الأحايين- على العاملين في المدرسة.. ولندرة الالتقاء يد خفية، تبقينا -متى ما ألتقينا- صامتين، ولاختلاط الأعراق في المدرسة ذات اليد، التي تحرمنا سماع العربية والتحدث بها بعفوية، فنأثر الصمت على الحديث. لا يصبح الصمت عذبًا، إلاّ في أحضان الطبيعة الخضراء، في وسط الأشجار المعمرة.. وفي المدرسة منها العديد، تحت وطأتها، ومفاتنها، وأصواتها؛ تتبدد الوحشة المتوغلة في الصدر، يتوقف الزمن المتسارع عن الحركة، الزمن الذي يذكرني بقرب النهاية..  تصبح اللحظة أكثر إغراًء، عندما يخالجها نغم جميل، تألف نفسي سماعه.. في الزاوية المنعزلة، تجلس إحدى العاملات هربًا من وحشة الخارج.. تنشد ما شاء الله أن تنشد، بأعذب الألحان، نتفتح كمّا الزهور مع ألحان السرور، وما إن تتوقف أرمقها بنظرة ود، تفهمها وتكمل.  تنسل هي، أنسل أنا، تجمعنا الحديقة المخضرة في أوقات ندركها، ول

الظل المنسي (قصة قصيرة)

صورة
  أنّهم يلعبون، في الساحة الشاسعة، على الأرض الرملية الناعمة.   يلعب الأطفال بسعادة، تتعالى ضحكاتهم بصخب، ترتفع للسماء..أقف على حافة الساحة، أتابعهم بهدوء، يشكلون الرمال برقة، وتأبى إلا الفرار من بين أصابعهم. لا حجاب يحجب الشمس الساطعة، تلقي بضوئها على السطح الرملي، تسقط أشعتها علينا بلا رأفة..   لكنها لم تستطع اختراقنا، يتجذر الضوء، يشكل شخوصًا جديدة، ظلال سوداء، تبرز على الأرض، تتراقص، تتحرك بحرية دون أن يلاحظها أحد.   يخطف بصري منظرها، تحوم بنشاط، كأنما توقف الزمن، خيل إليّ أنها انفصلت عن الأجساد، أكثر حيوية، أقل انتظامًا، لا تقيدها القوانين، ولا يحيط بها حيز.. حملنّي وجداني لتتبعها دون انشغال، وعنَّت لي رغبة البحث عن نظيري من بينها؛ يشغلني إحساس البهجة عن البحث، إذ سرني منظرها الحر، تقفز، تلعب، تركض للبعيد...   يرن الجرس معلنًا نهاية اللعب، أنادي الأطفال: " أنتهى وقت اللعب". يقفون بآلية، في طابور منتظم، تتلاشى أصواتهم الضاحكة، تصدح نغمات الأحذية المنتظمة، يرددون الأناشيد بخنوع وبلادة، كمّا لو كانت تصدر من شيخ كبير.. أفكر حينها بالظلال في تلك الساحة، أختلس النظر إليها، تدر

صفحة جديدة.

صورة
محرم / هـ 1/1/1444  31 July     البارحة بيّت العزم على الكتابة، لعادة اعتدتها منذ سنوات طويلة وهي: أن أكتب ما التصق بالنفس من شعور ليلة بليلة.. من عمق الأعماق، أمد لها يد العون، أطهرها من الشوائب، أفسر ما استعصى عليها فهمه، أعيد صياغته بالقلم.. لذا أخذت القلم بيدي وفتحت مذكرتي، قلبت صفحاتها فما وجدت فيها صفحة فارغة، الصفحات تفيض حبرًا و تضج  بالكلمات والأفكار.. قصدت المكتب بحثًا عمّا يغنيني عن تلك المذكرة ، فتشت أركانه فلم أجد إلا مذكرات قديمة لم يتبقَ من أوراقها  إلا النزر اليسير، وفي داخلي ما يحتاج  إلى صفحة جديدة من دفتر جديد.  كان الكلام المكبوت يفرّ للخارج على شكل همهمة  لأسئلة لا أعرف لها جوابًا، دموع حارقة، نظرات تائهة تحوم حول المكان، يتحول المكبوت لحاجة ملحة تتطلب البوح العاجل.. حينها تثب إلى ذهني فكرة لا أدري من أين وثبت إلا وهي : " أن أفرغ ما أفكر به في تدوينه كمّا لو كانت صفحة من مذكرة جديدة." وكأنما انساقت نفسي لجرف هاوٍ، اضطربت لهذه الفكرة أعصابي وتهيبت الكتابة هنا، لعلمي بالبون الشاسع بين الكتابة في مذكرة لا يطلع عليها أحد، ومدونة يزورها أي أحد..  تخرج الكلمات

ذاكرة للتآكل .

صورة
  أفتح هذه الصفحة بعد شهورٍ توالت وساعات مضت،  تكبل يدي عن الكتابة ، يتجمد شعوري المتوقد، ويداعب الوسن عيناي.  تمضي الشهور، دون استنطاق أيّ شعور. تمنيت يومذاك لو أن الإنسان الذي نخر الأرض نخرًا، وجاب مشارقها ومغاربها، ليخترع ما يسهل على الناس معيشتهم، أن يخترع ما يساعدهم على التعبير عن أصعب ما يشعرون به، لكن لا.. هي الأماني التي تكبر في داخلي، ولا أعرف كيف تحقق. عدت لأخبر الأخبار، وأهدّ ما تراكم في النفس.. لكن قبل أن أتحدث عن الكائن البغيض الذي سكن داخلي، وتغذى على عواطفي، ومنعني النوم ليالٍ..  يا من تقرأ كلماتي الآن، هلَّ قدمت معروفًا؟ صدقني لن أحملك أيّ مشقة؛ سوى أن أطرح عليك سؤالًا.. "هل تستطيع أن تذكر انتصارًا حققته على النسيان؟ "  انتصارًا أحرزته في لحظة كان فيها يستعد لمحو ذكرى أو فكرة تشبث بها.. إن كنت قد فعلت فحمدًا لله؛ فما أصعب  التشبث بأمر تعلم أن هنالك قوة ستسلبك إياه غصبًا، وليس أبغض من رؤية كنزك الذي أودعته ذاكرتك، ونقشته في قلبك، يسلب في غفلتك، إذ لا سبيل لعودته إلا برحلة طويلة تعود منها بأجزاءٍ متفرقة منه، تجمعها، تستولدها أكثر جدة عن ذي قبل، وربما هفت بريقها

عزاء النفس

صورة
    نسيمٌ بارد، حفيف شجر، وضوء شمسٍ أرخى أشعته على النهر، مزرقٌ منساب. نقف أمامه نقلب النظر، وقد خلا كلٌّ منّا إلى نفسه وفتح الباب لأشجانه، ولأن منظره يخلع عن المرء رداء التكتم، أنطقني ترنيمةً أحفظها عن ظهر قلب، بنغمةٍ حزينة أنشدتها: " يا الماي اللي تمشي سلم لي على أمي.. قل ترى غصين الموز تخدم الخيزرانة" نظر إلي أخي وعلى ملامحه الدهشة وقال: ما الذي ذكرك بهذه الترنيمة؟ سؤال أخي المنذهل من خلجات نفسي، دفعني لابتسم ابتسامة النصر؛ كونه لم يدرك – على الرغم من كثرة التكرار- السر الخفي والحقيقي وراء هذه الترنيمة وقصتها. حارَ بي سؤاله ونغمات هذه الترنيمة لأيام الصبا، حيث كانت جدتي ترددّها على مسمعي كل ليلة، لا تنطلي عليها حيلي التي أمارسها لتغيير مجرى الأحداث في تلك القصة ولا في ترنيمتها الشجية، لذا صرفت عنها الرأي؛ حتى نُقشت -تلك القصة وألحانها- في عقلي، كنقشٍ على حجارة ملساء. تنكشف خبايا القصة كلمّا جررت أطراف خيوطها، من منزل التاجر الذي أسبغ الله عليه النعم، وابنته الوحيدة المدللّة، التي ملأت عليه الدنيا فرحًا ومرحًا، ذات الاسم الفريد "غصين الموز".. كانت تعيش عيشة نا

رسائل معلقة

صورة
إن هذا اليوم أسعد أيامي وأحبها لقلبي العليل، فقد علمت أن رسالةً واحدة من بين آلاف الرسائل المعلقة ستصل إليكم. بعيدون أنتم بعد الجسد، بعد الزمان والمكان، قريبون قرب الروح؛ لذا لم أهمل كتابة الرسائل يومًا، ولم تقف حقيقة مرضي عائقًا عن ذلك . أنكم يا من تعيشون بالأمل تنتظرون خبري، وقد انقطع عن العالم دونكم، ولازم جسدي غرفة بيضاء مزينة بالأجهزة، وألقي على فراشٍ أبيض.. تمضي بي الساعات والأشهر فاقدٌ لوعيي، أنازع وأقاوم. إني أعلم أن ما يصلكم من خبري، ما أخمد شرارةً أوقدت في نفوسكم.. وقد هاجكم الوجد، وسلبكم قناع الليل سكينة أنفسكم؛ فاشتد الوجع بين جنبيكم وتأجّجت لوعتكم، وسألتم الكريم أن يبلغكم فيّ أمرًا ينزل على قلوبكم نزول الغيث على الأرض المقفرة.  لا أزال أتنفس تنفسًا يحرق صدري ويهدم أركان جسدي، فما أضيق صدري و أشدَّ وحشتي!  لا أطيق عالمي الجديد..لا الصمت المحتوم في هذه الغرفة، ولا صوتُ طنين الجهاز فوق رأسي، إذ يزداد طنينه يومًا بعد يوم، وتثقل نفسي عليّ وتنفر؛ فإن قطعت أسلاكه ودفعته بعيدًا، هرعوا من حولي أشخاصٌ يرتدون البياض، وما كان منهم إلا أن كبلوا الأيادي ومنعوا مرادي. حتى وفي ليلةٍ ظلماء