عزاء النفس


 

 نسيمٌ بارد، حفيف شجر، وضوء شمسٍ أرخى أشعته على النهر، مزرقٌ منساب. نقف أمامه نقلب النظر، وقد خلا كلٌّ منّا إلى نفسه وفتح الباب لأشجانه، ولأن منظره يخلع عن المرء رداء التكتم، أنطقني ترنيمةً أحفظها عن ظهر قلب، بنغمةٍ حزينة أنشدتها: " يا الماي اللي تمشي سلم لي على أمي.. قل ترى غصين الموز تخدم الخيزرانة"

نظر إلي أخي وعلى ملامحه الدهشة وقال: ما الذي ذكرك بهذه الترنيمة؟

سؤال أخي المنذهل من خلجات نفسي، دفعني لابتسم ابتسامة النصر؛ كونه لم يدرك – على الرغم من كثرة التكرار- السر الخفي والحقيقي وراء هذه الترنيمة وقصتها. حارَ بي سؤاله ونغمات هذه الترنيمة لأيام الصبا، حيث كانت جدتي ترددّها على مسمعي كل ليلة، لا تنطلي عليها حيلي التي أمارسها لتغيير مجرى الأحداث في تلك القصة ولا في ترنيمتها الشجية، لذا صرفت عنها الرأي؛ حتى نُقشت -تلك القصة وألحانها- في عقلي، كنقشٍ على حجارة ملساء.


تنكشف خبايا القصة كلمّا جررت أطراف خيوطها، من منزل التاجر الذي أسبغ الله عليه النعم، وابنته الوحيدة المدللّة، التي ملأت عليه الدنيا فرحًا ومرحًا، ذات الاسم الفريد "غصين الموز".. كانت تعيش عيشة ناعمة، لا يكدر صفوها بؤسٌ ولا كمد، منعمة لا تعرف شكل الحياة خارج بيتها، ولا تدرك معنى الشقاء الذي تذوي منه النفوس، لتغشاها الكأبة والحسد.. ليست تفرق بين عدوٍ وصديق، أمرها مع الجميع سواء، تسبغ عليهم من الأموال، والمعاملة الحسنة الشيء الكثير. ولغصين خادمة -اسمها أغرب من صاحبتها- تكنى " الخيزرانة"، ترى فيها خير صديقة وإن كانت لم تحط من خبرها إلا الشقاء وبؤس العيش، لكنها ظلت تسامرها وتشاركها كل شيء، تحسبها من أحكم الناس، وأكثرهم تجربةً وحنكة.. لكن الود الذي تغدقه عليها لم يكن كافيًا، وما أنسى الخيزرانة شقاء حياتها السابقة؛ بل زادها غلظةً وحسدًا، فأخفت حقيقة كراهيتها لسيدتها، وظلت تتملّق من جهة وتمكر من أخرى.

غفلت الأيام عمّا تنسجه الخيزرانة من خططٍ خبيثة، وأسدل السجاف عن عاقبة الثقة اللامتناهية، لكننا نعرف سلفًا أن للثقة العمياء درسًا قاسيًا، فإن لم يكن جرحًا يحرق القلب ويدميه، يكن الحادث الجللّ. تغض الأيام طرفها، وما إن تتنبه، تأتي بقوارعها.. تغدر الخيزرانة "بغصين"، تحبسها في إحدى النخيل الواسعة، لتبكي وتنتحب ليلها ونهارها؛ تتجرع الأمرين ألم القسوة والتعذيب، وألم الشوق والحنين.. يمرّ عليها الدهر، يقلب أحوالها تقلبًا حادًا؛ لتجد نفسها تعيش بؤسها بتؤدة، تمنّي النفس بالأماني، تعزيها وتسليها عند نهرٍ جارٍ. تخرج صبيحة كل يوم حاملة الجِرار تدنو إليه، تحركه برقة وتنشد له بشجن:

" يا الماي اللي تمشي سلم لي على أمي.. قل ترى غصين الموز تخدم الخيزرانة"

هذه الترنيمة الهائمة، والأمنية الصادقة التي استبثتها سرًا للنهر؛ كانت العزاء والسلوى، لقلبٍ سلم أمره. تناجي النهر، تتخذه صديقًا؛ ولأنه بعيد منال بعد أمانيها، تلح عليه أن يوصل رسالتها.


*عسيرٌ علينا أن نتخيّل كل الليالي المظلمة الموحشة، التي تحاصر المرء فلا يجد سراجًا يضيء نفسه وما حوله.. لا أنيس ولا رفيق، ولا صوت يعلو على صمت المكان، إلا صوت دواخله الذي ينخر روحه، يكاد منه أن يفقدها، بعد موجة مشاعر جامحة لا تعرف الهدوء.. ترفعه وتهبط به، تحاصره عند أيّ يابسة يظنها ملجأه الأخير؛ لكنها تعود لتلّقمه، وهلمّ جرًا.

الوصول إلى يابسة الأمان، والملجأ الحقيقي حيث تستقر النفس، لا يأتي إلا بإدراك مستبصر بأن المقاومة وحدها لا تكفي، لتحقيق الأماني البعيدة، والوقوف عند بر السلم. إن الإنسان الذي يتخبط تخبط الصريع، ستدفعه الأيام ليسلم أمره. تُكشف حقيقة "التسليم " الحقة.. يمسك بالخيط، يتبعه بانسجام، وبخفاء يجد السلوى والعزاء، يتكيف مع واقعه الصعب جاهدًا، يهدهد النفس ما استطاع.

 

*وحين تشتد عليه الأوجاع، يتأجج الوجد، وتتهافت الذكريات.. سيرفع للسماء بصره، لتسكن نفسه من منظر طيرٍ غادٍ إلى شأنه.. ليغني له بعذوبة:

" يا أيها الشادي المغرد.. ثملًا بغبطة قلبهِ المسرورِ

انشد أناشيد الجمال فإنها.. روح الوجود وسلوة المقهورِ" -الشابي

 

أو يغني لنجمةٍ تتوسط صدر السماء، في ليلٍ بهيم:

" أيا نجمة سطعت في الظلام.. أنيري طريق فتىً لا ينام

أيا نجمة في أعالي السماء.. أطلتِ السكوت فهل من كلام "-نسيب عريضة

 

يجد عزاءه في البر والبحر، الشروق والغرب، السماء والأرض... يغني ويهمهم، لا لكي ينسى؛ بل ليتشبث بأخر ما تبقى عنده من الأمل. 


تعليقات

إرسال تعليق

التعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

الأرض المجهولة