رسائل معلقة







إن هذا اليوم أسعد أيامي وأحبها لقلبي العليل، فقد علمت أن رسالةً واحدة من بين آلاف الرسائل المعلقة ستصل إليكم. بعيدون أنتم بعد الجسد، بعد الزمان والمكان، قريبون قرب الروح؛ لذا لم أهمل كتابة الرسائل يومًا، ولم تقف حقيقة مرضي عائقًا عن ذلك .

أنكم يا من تعيشون بالأمل تنتظرون خبري، وقد انقطع عن العالم دونكم، ولازم جسدي غرفة بيضاء مزينة بالأجهزة، وألقي على فراشٍ أبيض.. تمضي بي الساعات والأشهر فاقدٌ لوعيي، أنازع وأقاوم. إني أعلم أن ما يصلكم من خبري، ما أخمد شرارةً أوقدت في نفوسكم.. وقد هاجكم الوجد، وسلبكم قناع الليل سكينة أنفسكم؛ فاشتد الوجع بين جنبيكم وتأجّجت لوعتكم، وسألتم الكريم أن يبلغكم فيّ أمرًا ينزل على قلوبكم نزول الغيث على الأرض المقفرة.

 لا أزال أتنفس تنفسًا يحرق صدري ويهدم أركان جسدي، فما أضيق صدري و أشدَّ وحشتي! 

لا أطيق عالمي الجديد..لا الصمت المحتوم في هذه الغرفة، ولا صوتُ طنين الجهاز فوق رأسي، إذ يزداد طنينه يومًا بعد يوم، وتثقل نفسي عليّ وتنفر؛ فإن قطعت أسلاكه ودفعته بعيدًا، هرعوا من حولي أشخاصٌ يرتدون البياض، وما كان منهم إلا أن كبلوا الأيادي ومنعوا مرادي. حتى وفي ليلةٍ ظلماء مدلهمة، غشّى ظلامها ما غشّى، أرخيت للجهاز سمعي فخيل لي أن الطنين ليس إلا ترنيمُ طائر، مرَّ يومًا بهذا المبنى فأوحشه المكان وأرابه، وأحزنه منظر نوافذه المغلقة التي لا يمر منها ضوءٌ ولا هواء، ولا يشدو بقربها أصحابه؛ فتجرأ هو واقتحم المكان، حام حول الغرف وبين الممرات، ولم يرَ في المكان إلا وجوهًا تذوي وأجسادًا تكابد.. وحسبي أنه حنّ علينا وبكانا ما استطاع أن يبكينا، وعاهد نفسه ألا يفارقنا ألبتة. ولم يدرِ أحد أهو طائرٌ عادي أم مالك الحزين. استطابت نفسي لهذه الفكرة واستأنست بها، لذا ما عدت أفرق أهذا طائر أم جهازٌ طنان .

لست أفارق السرير مذ مكثت هنا، ولم يرتخِ رأسي في راحة، ولم أرَ أيّ أحد -حتى لو حاولت- وأرمدت عيناي وازدادت غشاوةً وضبابية؛ لذا وجدت في استراق السمع متعة ولذة، دفعتني للخلوة بنفسي وخيالي.. أنقذني خيالي كثيرًا، فمتى سمعت صوت الخطوات الهلعة الراكضة -وكثيرًا ما تسمع في هذا الممر- سحبني إلى مكانٍ جميل يقبع في آخر الممر، يلتقي فيه المتحابون بعد طول انتظار، تفتح الأبواب، نخرج من الغرف لنهاية الممر، وجوه تتلألأ وأخرى تترقرق بالدموع.. لم يبقَ في تلك الغرف من باقٍ، كلٌّ التقى بمحبوبه وغادر المكان معه. هذا فعل خيالي، وما استطابت له نفسي واستأنست به، فازدادت يقينًا. وما عادت تفرق أهذه الخطوات الهلعة باعثة للحزن أم الفرح.

مع مرور الأيام.. بدأت أسمع ما تنطقه الجدران، من خلفها أسمع أرواحًا تشبهني تقاوم أشد المقاومة؛ لأن هذا صراعها المحتوم وما يفرضه عليها المكان.. تقاوم زحف البرد إلى الجسد، وتقاوم لحظات الغياب في وسط البياض، وكم هو موحشٌ هذا الغياب.. لقد طرق الباب علّي يومًا، أجبرني على خلع رداء الوعي، ومن ثم رحلنا للبعيد، فما عدت أذكر من أنا، من الناس، وأين أنا من كل هذا. ومهما اخترقت ذبذبات الأصوات أذني، لا أعيها ولا أرد عليها جهرًا وسرًا. لكني ما زلت أقاوم، كتلك الأرواح لا أهرب من صعوبة الإحساس ولا من ألم الجسد.

ما أكتمه في صدري ثقيل، لكنها رسالة واحدة أُخبر فيها أخبار الأيام علّها تخفف من لوعتكم شيئًا، وإني أبتغي الصدق لا أبوح إلا به؛ ذلك أن الخبر الصادق حتى لو استصعبته نفوسكم، سيبث في داخلها نفحةً لا تعود تتخبط من بعدها أبدا، تسلمون للكريم أموركم ويسكن قلبكم.

أما وقد صار جسدي هيكلًا وعظمًا، وأرمدت عيناي، وعقد لساني عن الكلام شهورًا.. خشيت أن أنسى، وألحت عليّ رغبة عزمت منها أن أذكر أحدًا بوجودي، أيّ أحد يدخل هذه الغرفة ويحركني كما الدمية، أيّ أحد. وعلى الرغم من كوني لست في مكان يؤهلني لخلق ذكريات، جاءت الفرصة على شكلِ ألمٍ مباغت. الألم اشتد حتى أحسست منيتي قد دنت؛ فتركت حبل المقاومة وصاح مالكٌ الحزين، بكى ما شاء الله أن يفعل.. وسمعت صوت تلك الخطوات الهلعة الراكضة مجددًا، وصوتًا جديدًا لم أدرك ماهيته.

أفتح عيناي المعتمة ببطء، استرق السمع، هأنذا عدت مرة أخرى.. هل كانت نوبة غياب جديدة؟ 
لست أعلم، غير أن الحادثة لم تغير شيئًا.. الحال كما الحال والسرير الأبيض ذاته، الطنين، البرودة، وصراع البقاء والنسيان ذاته. لكن الحادثة منحتني حقًا واحدًا؛ أن تصل هذه الرسالة لأحدكم، تاركة ذكرى لا تنسى في نفسه. وهذا ما استأنست به. 
    


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عزاء النفس

الأرض المجهولة