الأرض المجهولة






في صبيحة إحدى الأيام، خرجنا أنا وأخي لنتسكّع حول البساتين، تلامس الرمال الناعمة أقدامنا، وتداعب أشعة الشمس الدافئة أجفاننا، نتأمل البساتين الأخاذة كثيفة الشجر والثمر، نأنس بمنظرها، ونطرب لشدوها.. نقضي جلّ الصباح في زيارة البساتين، نسلم على أصحابها، نأخذ أخبارهم، لا يفوتنا في القرية أيّ شيء قديم أو مستحدث.. نعرف القرية كمّا نعرف أنفسنا، لكنّ يفوتنا معرفة بعض أراضيها المجهولة، وكانت إحداها محط نظر وجذب، بمجرد المرور عليها تحفنا المهابة، نتجمد، كأن رؤوسنا الطير ممّا نشهد. 

أقول لأخي -بعد تكرر المشهد- : ألاّ نكسر حاجز الخوف ونلج؟

: لكننا لا نعلم لمن هي؟

أجيب: هذا أجمل ما في الأمر، ندخل ونخرج بهدوء.

برحابة عالية يوافق، لا يطيل النقاش، لا يفكر في الأسباب، لا يفسر أسباب انصياعه السريع، لم يفسر أحدنا للأخر سر رغبته، نجاري رغباتنا بالمسير نحو الوجهة، نمشي في وتيرة واحدة نحو البستان، القابع في أخر الطريق، طريق غير معبد كحال أغلب الطرق في القرية.. في أثناء مسيرنا، أمعن النظر في تفاصيل البساتين الممتدة عن يميني وشمالي، صغيرة كانت أم كبيرة، قليلة الشجر أم كثيفة.. 

هذه الجنّان التي أبدعها الخالق، ومنّ بها على البشر، جمال يحمل لغته الخاصة، يخاطبنا الله بالجمال، ويقود أرواحنا التي تتلمس تلك المعاني إليه. ليت هذا الطريق يطول؛ فتتوه روحي في أصالة المكان، تمحو عنها كل صورة من صور التمدن، ربما تفعل تلك الأرض فهي أكثر البساتين أصالة في المكان.. 

لطالما حدثني والدي عنها، يحدثني عن البيت الطيني الذي يتوسطها، عن الأشجار التي تزرع في المكان..في أغلب الأحايين كنّا نرتجل من السيارة ونتأمل البيت، وتأخذنا الأحاديث للبعيد، عن الأطلال، الذكريات، من هجروا المكان.. ونتساءل ما الداعي الذي دعا أصحاب الأرض لهجرها؟ 


*اليوم نخطو خطانا إليه، بخطوات ثابتة ندنو منه، البستان الذي لا يحيط به شيء سوى الظل الوارف، والنخيل البواسق. 

لا خوف، يدفعنا الفضول يحركنا كالدمى، لا نفكر في العواقب، تغيبنا المناظر البهية عن وعينا، نركب المنى وننسى الحذر. 


تستقبلنا الأشجار، تتمايل بهجة، تهتز حياة، تتساقط  ثمارها على الطريق الطويلة، تشق دروبها لذلك البيت الطيني القديم، قلب البستان، متهالك، شامخ، تظلله الأشجار، تنعكس عليه أشعة الشمس وتتلألأ..كلمّا تقدمنا نحوه، تبدت لنا ملامحه العتيقة، لحظات من الذهول، يتخللها حركة وأصوات من بين الأحراش، تحثنا على التوقف والبحث عن مصدرها.. 
على بعد أمتار رجل يرمقنا بنظرات مبهمة، يتحرك بسرعة جنونية لأبعد مكان في البستان، يذعر أخي : صاحب البستان.

أصاحب البستان؟ 
وليس لهذا البستان صاحب؟ أنعود أدراجنا بعد كل هذا الجهد؟ لن أعود.


أرمق أخي بنظرة حادة وبحزم: لنناديه ، نعتذر منه ونشرح أسبابنا.
يصيح أخي بأعلى صوته: يا أخ، عليك السلام.. يا أخ 
تضمحل صورة الرجل، تتداخل في تفاصيلها الأشجار والأحراش، لم نستطع إدراك حقيقة ما نراه. يتلاشى سريعًا من أمام أعيننا مثل السراب، وجوم، يدب الخوف في دواخلنا، بنظرات حائرة 
" ماذا عسانا نفعل الآن؟" 
ينطق أخي المذعور: دعينا نكمل ما بدأناه " ندخل ونخرج بهدوء" 
أجيب بحزم غريب: لا يحق لنا، لنذهب إليه ونناديه 
-: هل جننتِ؟ 
: سأذهب إليه أنا. 

دفعتني رغبتي للتملص من إحساسي بالذنب، لتتبع خطوات الرجل، أنادي عليه كالمخبولة، لست أدرك عند أيّ حد سأتوقف، أو متى سينتهي كل هذا ونغادر المكان بهدوء كما خططنا.. كل ما أفكر فيه أنّ يرتاح ضميري، ويتوقف عن اتهامي باتهامات باطلة، ككوني اقتحمت مكانًا لا أعرفه بداعي الفضول وحسب.

يختفي الرجل، يتلاشى، يذوب ذوبان الثلج في الماء، أقف مذهولة عاجزة عن اتخاذ أيّ قرار، يعود لي وعيي شيئًا فشيئًا، أمعن النظر فيما يحيط بي.. خزنة ملابس مهشمة، كرسي بثلاثة أرجل، حوض استحمام تحت شجرة سدر عملاقة، سيارة مكسوة بالطين، كل هذه الأشياء تخبرني بشيء واحد، لهذا البستان صاحب.
أعود أدراجي وبخيبة أقول لأخي: لنرى البيت ونخرج سريعًا.
في منتصف البستان أمام البيت العتيق، كنا قادرين على خلق الغزير من الحكايات، كل زاوية لها قصة، عن البيت ، الصاحب، النخيل، الأشجار، النّاس، الجداول... ننشغل بالأحاديث عمن يقف خلفنا خلسة، كصخرة لا ينبس ببنت شفة، وحين أدركناه  تحدثنا معه والخوف يلعب بأعصابنا : السلام عليكم يا أخ، نعتذر على الإزعاج.. أصاحب المزرعة ؟

يحرك الفأس في يده وبهدوء : لا, أعمل في هذه الأرض تطوعًا مني.


* وقف حارس الأرض مثل شجرة تراقب الحائمين حولها، يراقب تحركاتنا بسكون، يجيب عن تساؤلاتنا بتساؤلات، لو دقق المرء في منظره لظن أنه سفاح، ينتظر اللحظة المناسبة ليضرب ضحاياه، يغلب عليه الصمت؛ لم يكن يحمل  نبوءة هذا البيت، لذا ظل يتغافل عنّا حتى سرنا مبتعدين.. ظلت عيني تلاحقه من البعيد، يقف بثبات ممسكًا بفأسه، على رأسه قبعة خضراء، يغطي جسده ثوب مصفر، يعتلي وجهه الجمود.. تتضاءل صورته شيئًا فشيئًا، وتضيع في وسط الزرع الكثيف. 
ما الذي يدفع هذا الرجل للعيش في أرض مجهولة؟
                                              
                                       

 ***

على الطريق الطينية الوعرة أقود سيارتي ، شارد الذهن، غير آبه لصوت المذيع الذي يصرخ من المذياع، وينوح محذرًا البشر من شرٍ قد اقترب . 
كان خبر عودة الفايروس المميت، صادمًا ومسيطرًا على أفكاري وحياتي، فشاب لا يجد ما يسد به رمقه، عدا تلك الأعمال الحرة التي يمتهنها بين الفنية والأخرى، يجدر بمثل هذا الخبر أن يملأ الدم في أوداجه، ويعظم الخبر في نفسه؛ وحدث ذلك.. إذ أن جلّ ما كنت أفعله في تلك الليالي المدلهمة، أنّ أخطط وأضع البدائل؛ كما لو كنت جندي يعد عدته للحرب.. في حين يسلبني القلق لذيذ الكرى، وينسيني كيف يرتع المرء ويقضي يومه ببساطة. 

استمع اليوم للمذياع بينما أدلف للبستان، حاملًا فأسي وحبالي، غير مدرك للتفاصيل التي أوصلتني لهذه النقطة، العيش في هذا البستان. ألج لذكرياتي تأخذني تلك اللحظة ، التي كنت فيها كسيرًا، أهز رجلي في قلق، أقلب في صندوق البريد، أنتظر خبرًا أعرف كنته.. أفتح البريد، أغلقه، أفتحه، دون أن أصب تركيزي فيه، تضيق أنفاسي، يريحها زفرة تخرج من صدري، عندما أضاءت شاشة الهاتف.. استشعر حرارة الدمع على خدي، أبكي على حالي وما من معزٍ. 

مرّ على طردي من علمي شهور طويلة، ألاحق فيها أشباح الوظائف أو أيّ شيء أفعله، أرى وهج الشمس باهتًا، والأرض أضيق من أن تتسع لنملة.. قطع تدفق الذكريات المؤلمة، صوت ينادي من البعيد، اتتبع مصدر الصوت، إذا برجل وامرأة يقتحمان الأرض دون سابق إنذار. يرتعش جسدي، ينقبض قلبي، أمسك بفأسي، اتتبع خطواتهما خفية، بينما تتعالى أصوات النداء : يا أخ، يا أخ.. أصاحب البستان ؟


لم أعرف ماذا عساي أفعل، كان القلق والشك يزعزع ذهني، ويعكر صفو طمأنينتي، رحت أتخفى بين الأشجار، حتى تواريت عن الأنظار.. 
تتغذى مشاعري على الشك والقلق، ولم أكن أجنِ من تفكيري سوى الوساوس، وكدت أن أجن مما أصابني ورحت أفكر : 
أتراهم أصحاب البستان؟
هذا مستحيل


*رجل وامرأة أمام البيت الطيني، تحرك الفتاة يديها بخفة على جدرانه، تثرثر وتحكي عن البيت كما لو كانت تعرفه، أمّا الرجل فيقف مشدوهًا، يحدق في البيت بذهول. لربما كان الرجل ثريًا، ينوي شراء هذه الأرض، الأثرياء لا يتركون جمالًا إلا حولوه لرصيد مالي يدعم ثرواتهم، حتى بيوت النمل.. يلتفت الرجل فجأة يقفز مبتعدًا ثم يقول : السلام عليكم.. نعتذر على الإزعاج، أصاحب البستان؟
ما الذي يخيفه ؟ لست شبحًا، أحدق في نفسي ثم ابتسم: حسنًا، لا يلام .
يعيد الرجل علي السؤال : أصاحب البستان؟ 
بصوت متهدج: لا، أعمل في هذا المكان تطوعًا مني.


تكاد تكون المرة الأولى التي أحس فيها بمرارة الرفض، ولكم وددت أن تحملني الثقة لقولها : هذه أرضي، بذلت فيها روحي، أرضي التي أعادت وميض الأمل في نفسي. خيري الخفي في عام توارت فيه المصائب، والمكان الذي قادتني إليه أقداري. الخير، الذي أموت كمدًا لأظفر به..  ارتبط اسمي، وجهدي، وعملي بها.. حتى لو عشت مجهولًا أبد الدهر، فلا يعرف بوجودي سواها.
هناك شيء ساحر في هذه الأرض، يجعل كل من يمر بها يتوقف. على الرغم من كونها مجهولة، عشوائية، وحيدة.. إلا أنها ساحرة بما يكفي لمن يتأملها، كانت تئن وليس هنالك من يسمعها، تصدع البيت، وشاخت الأشجار. لكنها كافحت وناضلت، تنبض بالروح.
راقبتها بحكمة، انتظرت أن يلتفت إليها أحد؛ وكنت أنا من ساقني الله لهذه الأرض. 


فهل أخسرها الآن؟
أأخسر هذه الأرض أيضًا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

عزاء النفس