صفحة جديدة.

محرم / هـ 1/1/1444
 31 July  

 



البارحة بيّت العزم على الكتابة، لعادة اعتدتها منذ سنوات طويلة وهي: أن أكتب ما التصق بالنفس من شعور ليلة بليلة.. من عمق الأعماق، أمد لها يد العون، أطهرها من الشوائب، أفسر ما استعصى عليها فهمه، أعيد صياغته بالقلم.. لذا أخذت القلم بيدي وفتحت مذكرتي، قلبت صفحاتها فما وجدت فيها صفحة فارغة، الصفحات تفيض حبرًا و تضج  بالكلمات والأفكار.. قصدت المكتب بحثًا عمّا يغنيني عن تلك المذكرة ، فتشت أركانه فلم أجد إلا مذكرات قديمة لم يتبقَ من أوراقها  إلا النزر اليسير، وفي داخلي ما يحتاج  إلى صفحة جديدة من دفتر جديد. 

كان الكلام المكبوت يفرّ للخارج على شكل همهمة  لأسئلة لا أعرف لها جوابًا، دموع حارقة، نظرات تائهة تحوم حول المكان، يتحول المكبوت لحاجة ملحة تتطلب البوح العاجل.. حينها تثب إلى ذهني فكرة لا أدري من أين وثبت إلا وهي : " أن أفرغ ما أفكر به في تدوينه كمّا لو كانت صفحة من مذكرة جديدة."

وكأنما انساقت نفسي لجرف هاوٍ، اضطربت لهذه الفكرة أعصابي وتهيبت الكتابة هنا، لعلمي بالبون الشاسع بين الكتابة في مذكرة لا يطلع عليها أحد، ومدونة يزورها أي أحد..  تخرج الكلمات في الدفتر بعفويتها لا تخضع للتعديل والتبديل، وتخرج في المدونة بصورتها المحسنة والخاضعة للعديد من العمليات التجميلية.
ولأن الكلمة تلح وتحارب لفك القيود والهرب، خادعت هذه النفس الجبانة وبسطت الأمر عليها، بل جعلتها تصدق أن هذه الصفحة لن تقرأ البتة، ثم أسلمت إلى الله أمري وكتبت..



***







كان هذا السؤال الساذج والمحير، آخر ما كتبته في رسالة بعثتها لصديقة  تتحمل غرابة أفكاري، بعدما تأكدت أنه فتح لي بوابة لسردية مختلفة عن الحياة. 

يقال أن الأسئلة التي يطرحها الإنسان دونما تردد وخوف، تقيس أفكاره وفي بعض الأحيان تقيس ما هيته، في هذا يقول الكوني (إبراهيم): " أن قيمة كل إنسان إنّما تكمن في هوية السؤال الذي يطرحه... لأنه سرعان ما ينقلب في حياته هاجسًا، يحدد له موقعه في ساحة الوجود، بل ويحدد له موقفه، من هذا الوجود." 

هنالك تلك الأسئلة البديهية التي لا يسألها أحد، كأن يسأل الإنسان الحيّ الآخر : " هل أنت حيّ أم ميت ؟ " 

 من الطبيعي ألا يجيبه جوابًا مثل: " نعم أنا حيّ"، لأن الممارسات التي تجسد الحياة لا تزال  تنبثق منه وفيه، وهي تعفيه عن الجواب. الحياة  لا تزال تسري في جسده، وتحجبه عن العوالم الأخرى، بل وتحجبه عن الضد اللصيق بهذه الحياة " الموت"...


في سن السادسة عندما يحين وقت النوم، تصحبني والدتي إلى فراشي، تظلم الغرفة ويهفت النور شيئًا فشيئًا، تجلس  هي على حافة الفراش، تحثني على ترديد كلماتها : " باسمك اللهم أموت وأحيا" 
وحين أتوسد الجانب الأيمن تحثني على الترديد مرة أخرى : " باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه وإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" 

وقتها كان أخوف ما أخافه الظلام، والموت، والشيطان، وأم السعف والليف... هناك العديد من الأشياء التي أخافها متى ما ذكرت، ولكني أتخذ تدابيري لحماية نفسي سرًا، ببراءة الطفل، أما الموت الذي لم أفهم ما دخل النوم به  آنذاك، وتعقد في ذهني معناه، كنت أحمي نفسي منه بأن لا أنام حتى لا يغدر بي، وإن غالبني النوم من شدة التعب، توسلت الله أن أحيا وأشهد الصباح..  تشرق الشمس ويوقظني أخي، أحس أنفاسي تخترق جسدي، أهرع بسرعة جنونية إلى والداي لأرى هل ما زالا يتنفسان، هل منّ الله عليهم بالحياة أيضًا؟ 

ولا أقيس مدى سعادتي حين ننطقها سويًا : " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور." 

كنت الطفلة التي تعيش مع ثنائيات الأشياء والمعاني، وكان لابد لهذا الجرم الصغير أن يتوسط هذه الثنائيات الضخمة ليدرك كيف تتحرك الحياة. السماء والأرض، النور والظلام، الموت والحياة... كان من المهم  ألا أميل ميلة واحدة لشيء دون الآخر، فغياب الآخر لا يعطي الصورة  حقيقتها المتكاملة، تخلق الفجوة فهمًا ومعنى.

بينما الجرم الصغير يكبر، وتتوالى السنون راكضة متقدمة، ينسى الجرم الصغير نقطة ارتكازه، فما يعود تنفسه صباحًا يستدعي الفرحة العارمة، ويكون الاستيقاظ من النوم مصدر إزعاج حين يرن جرس المنبه.. وتقتل البلادة كل إحساس بالحياة التي تسري في الجسد القويم.
 
كل الظواهر تشبه نفسها ولا تحرك ساكنًا.. الليل، النهار، الضوء، الظلام، الحياة، الموت... بل ويأخذ البعد الواحد حيزًا ضخمًا في النفس، مع فقدانه للتجديد في معناه. كلما ركزت على بعدٍ واحد كان إحساسي به ضئيلًا، وإحساسي بضده لا وجود له.

هل هذا فعل النضج؟  أم ضريبة التحول من عالم الطفولة لعالم البالغين؟ 
لست أدري، لكن البلادة في هذا العالم مقيتة.


***


في زيارة قريبة لأخي الراقد في المستشفى، حيث لا يزال جسده ملازمًا لفراش المرض.. حييته بتحية السلام ثم حادثته أحاديثًا مطولة، لكنه لم يستجب، ولم يحرك ساكنًا.. رثيت آلامه في قلبي، والدمع يترقرق من العين، وأمضيت الوقت كله أقرأ عليه من الآيات ما تريح أوجاع جسده وروحه.. تتحسس يدي قلبه ثم تتهيب نبضاته الصارخة، تتحسس جبينه الحار، ثم تهبط على يده الهشة، إذا به يقبضها فيشد عليها شدًا مؤلمًا.. تشلّ حركاتي، وتسري الرعشة في بدني، تتسارع لهذا نبضات قلبي حتّى كاد يخرج من صدري.. هل عرف من أكون؟  
أشعر به، يخبرني بشيء لست أدري ما هو. 
 يمضي الوقت وينتهي، أفلت يدي من قبضته مرغمة، دون أن أعرف ما الذي أراده مني.
 
أترك للحيرة القاتلة، تصب القشعريرة في عظامي كلما تذكرت حرارة يده، أتشاغل عن الذكرى، لا أحدث به أحدًا حتى نفسي.. 
لم يكن أمامي إلا أن أحتمل حيرتي على مضض. 

مضت الأيام، وأخذت حيرتي تتسرب لتعلن انكشافها، فحدثت والدتي عمّا جرى  يومذاك، وجسدت لها تلك القبضة حتى تأوهت في آلم وتساءلت : ألم تشعري بالألم؟

لقد انتظرت هذه اللحظة بل منيّت بها نفسي، وبثثت فيها أملًا ويقينًا بأنه سيتجاوب معي يومًا ما، حتى جاء اليوم فما أشد حيرتي! 

: ماذا عساه يخبرني به يا أماه؟ لقد شعرت بأنه يرد على حديثي صدقيني...
: يخبركِ أنه حيّ. 
وبصوتٍ له وقعه على النفس قالت : أنا حيّ. 



إن الأجساد التي ترقد في تلك الغرف، تعرف حق المعرفة كيف تسير هذه الدنيا بكل تعرجات الطريق، ذلك أن الحقيقة العصيّة علينا كانت قد استسلمت لهم أخيرًا.. والحياة تقاطعت مع الموت وتشابكت معه، فاكتملت الصورة  في أذهانهم ورسخت في نفوسهم.

 لم تكن لتكتمل هذه الحياة إلا بالموت، فإذا وهنت حياة عزيز نحبه، وخيل لنّا أنه يعيش في غياهب المجهول الذي نظنه موتًا، أحيتك روحه وبرهنت لك أنها تمسك خيطًا يربطها بعالمك.. في مرحلة ما بين " الموت والحياة"  يثبت لنا هذا المحبوب أنه لم يمل كما ملنا في اتجاه واحد، بل أنه يتوسط الأشياء، ليس هنالك جانب يغيّب الآخر عمدًا.. وهذا لعمري أمل لم أعرف في حياتي مثله، لأنه يحيي الحياة ويجددها، تنظر إليها كهبة أصيلة وثمينة، تنظر إليها نظرة مختلفة، وتحسها تقف بك أمام الموت دون خوف وتغييب، لتعيش الحياة لا شبحها، ولتدركها بتكامل.. 

وهل لنا أن ندرك حقيقة الحياة إن لم نطل النظر في  تفاصيلها، ونقترب من ضدها اللصيق بها؟


 









 

 

 



تعليقات

  1. صباح الخير
    في هذا الصباح كنتُ أتساءل "كيف حال أمون هذه الأيام؟" ودخلت إلى المدونة لأرى ما إذا قد كتبتي تدوينةً جديدة.
    لامسني كثيرًا ما كتبتي "كان من المهم ألا أميل ميلة واحدة لشيء دون الآخر، فغياب الآخر لا يعطي الصورة حقيقتها المتكاملة، تخلق الفجوة فهمًا ومعنى." لم يخطر ببالي هذا الأمر من قبل، وأن التوسط هو الذي يجعلنا أقرب للحقيقة.
    إنهُ لخبرٌ سعيد أن أمسك أخاكِ بيدك، إذًا إنّهُ يشعر بك 🤍
    شفاه الله وعافاه وألبسه ثياب الصحة والعافية، أدعو الله أن يخفف عنهُ وعنكم وأن يتحسن عمّا قريب

    ردحذف
  2. صباحك طيب وهانئ،
    لقد أسعدتني دعواتك الصادقة يا مرام، وأسعدني مرورك اللطيف
    لذا فأنا شاكرة لك وممتنة.
    كوني بخير دائمًا..

    ردحذف
  3. دخلت المدونة عشان أعيد قراءة تدويناتك لأني افتقدتك هالفترة، فلا تتخيلين فرحتي لما شفت إنه فيه "تدوينة جديدة"! عسى تكونين دائما بخير آمنة. الله يريح بالك ويطمنك على كل عزيز وغالي ..

    مريم

    ردحذف
  4. دائما كتاباتك تلامس القلب ... اتمنى الشفاء العاجل لاخوك ،ربي يخفف عنه و يرزقه الصحة والعافية وماتشوفون اي مكروه انشاءالله 💌

    ردحذف

إرسال تعليق

التعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

عزاء النفس

الأرض المجهولة