ذاكرة للتآكل .


 


أفتح هذه الصفحة بعد شهورٍ توالت وساعات مضت، تكبل يدي عن الكتابة، يتجمد شعوري المتوقد، ويداعب الوسن عيناي. تمضي الشهور، دون استنطاق أيّ شعور. تمنيت يومذاك لو أن الإنسان الذي نخر الأرض نخرًا، وجاب مشارقها ومغاربها، ليخترع ما يسهل على الناس معيشتهم، أن يخترع ما يساعدهم على التعبير عن أصعب ما يشعرون به، لكن لا..هي الأماني التي تكبر في داخلي، ولا أعرف كيف تحقق.

عدت لأخبر الأخبار، وأهدّ ما تراكم في النفس.. لكن قبل أن أتحدث عن الكائن البغيض الذي سكن داخلي، وتغذى على عواطفي، ومنعني النوم ليالٍ..  يا من تقرأ كلماتي الآن، هلَّ قدمت معروفًا؟

صدقني لن أحملك أيّ مشقة؛ سوى أن أطرح عليك سؤالًا..

"هل تستطيع أن تذكر انتصارًا حققته على النسيان؟ "

 انتصارًا أحرزته في لحظة كان فيها يستعد لمحو ذكرى أو فكرة تشبث بها.. إن كنت قد فعلت فحمدًا لله؛ فما أصعب  التشبث بأمر تعلم أن هنالك قوة ستسلبك إياه غصبًا، وليس أبغض من رؤية كنزك الذي أودعته ذاكرتك، ونقشته في قلبك، يسلب في غفلتك، إذ لا سبيل لعودته إلا برحلة طويلة تعود منها بأجزاءٍ متفرقة منه، تجمعها، تستولدها أكثر جدة عن ذي قبل، وربما هفت بريقها القديم.

 

الرحلة:

تبدأ الرحلة التي مضيت فيها بلا رجعة، بأسئلةٍ بسيطة لا يحس المرء خلفها أيّ عقبات، أو مراحل متتابعة الوجع.. تبدأ بطرقات مترددة على باب غرفتي، يفتح الباب ليستقبلني أخي الصغير، واجمٌ مكتئب، مطرقٌ الرأس، يرفع ساعته إلي ويسأل: كم الساعة الآن، لا أستطيع رؤيتها.

أرد عليه بعتب: ألهذا أيقظتني؟ الساعة السابعة والنصف.

يوصد الباب، ويُفتح بابٌ آخر لم يقفل حتى يومنا هذا، واسئلة لم تتوقف إلى يومنا...

تتفاوت الأسئلة التي ينطق بها أخي، طفولية، اعتيادية، آخر عهدي بها في عمر العاشرة.. لا يسألها من تشبع بالاعتياد، وخرج من أطوار الطفولة.. كأن يسأل:

" ما لون هذا الطبق؟، كم الساعة؟، كم عدد النقود في يدي؟، كم عدد السلالم  في منزلنا؟"

يختتم اسئلته بجملة مستنكرة، تجبر والدتي على فحص أضواء المنزل يوميًا..: الليل في منزلكم بهيم جدًا، والغشاء كثيف.

صدق أخي، ما بالغ في قوله، فأما الليل فبهيم، والغشاء يتدجىّ ويتكاثف، لكننا لم نلاحظه. تدهشنا أسئلته، ويدهشنا إصراره على  وصف الظلمة التي اكتسحت منزلنا، ثم تسحبنا الحياة، لننسى الأمر برمته.

أتذكر سؤاله الأخير، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.. إذا قال ذات مرة بضجر: أتراني أرى من جديد؟

نندهش كعادتنا ونصرخ في صوت واحد: ألا تستطيع رؤيتنا؟

لم يكن يرانا، ولم يرَ تلك الأرقام في الساعة، ولا لون النقود وفئتها... لا شيء سوى الليل البهيم والغشاء الضبابي، ثم ندرك بعد تشخيص طال أمره أنه مصابٌ بورمٍ في الدماغ.

*تأخذني الملمّة، يغيبني التكذيب، ويخيل لي إني شجرة ثابتة تجذرت في الأرض، لا تميل مع الرياح العاصفة... كلمّا حدثني شخص ما عن الأمل والصبر غشّى وعيي ما غشّى فقلت: رضيت، صبرت.

وما كنت أعي ما أعايشه، لا دموع والدتي زلزلتني، ولا فتور والدي أعادني... وأعجب ما أعجب له خروجي للناس وانشغالي بهم عن المصاب، وإذا سأل سائلٌ منهم أجبت بصوتٍ محشرج: بخير.

أسير، أقبل على الحياة، وما كنت أفعل إلا تظنِّياً.. ولم أهتدِ لحقيقة أمري وأفعالي، إلا حين زرته في المستشفى، في غرفته التي لونها البياض، وملأ القرُّ جوها.. أدنو منه أحييه، وحين لا أسمع منه ردًا، أقول: "لو عرفت من أكون أغمض عيناك."  أحدق في الخواء، في عينيه، أصر على رصد أي حركة تريح قلبي؛ لكني لم أشهد إلا الجمود.

 تصفعني حقيقة أنه بدأ يفقد كنزه، أن ذاكرته تتآكل شيئًا فشيئًا.

 

الثورة:

لأحدثك عن عدوي اللدود، الذي فتح الرِتاج الموصد بيني وبينه، اشتعلت النيران من حولنا، وما عاد أحد يجرؤ على إيقافنا، عن النسيان الذّي دفعتني ألاعيبه للهوَّة، وتربص بي حتى كدت أزل. كلمّا خلوت بنفسي ورحت أجوب في ذكرياتي بحثًا عن ذكرى تجمعني بأخي، هاجمني بغتة، ومنعني استحضارها، أزفر زفرة تخترق حجاب القلب، راكضة إلى والدتي استنجد بذاكرتها فأقول: " أمي هل تذكرين...".

 استغلظت أفانينه، ففي كل زيارة للمشفى، يملأ روحي وحشةً وغرابة، أحس البرد ينخر عظامي، والصمت يخنقني.. أهرع لبوابة الخروج، تستقبلني الحياة بألوانها، وحركتها العجول، ضجيجها. وعجبًا تذيبني وتنسيني!

تهدهد القلب المفجوع، تسكن آلمه، تخمد نيرانه، لكن تأثيرها يفشل بعودتي للمشفى، حيث الحياة وهنت، والوجوه ذبلت، والأجساد ذوت، ولا شيء سوى المقاومة التي تتأجج تارة وتتأرجح أخرى. يستثار الساكن، جذوة نار مشتعلة تنطقني بغضب: ألا سحقًا لك أيها العدو!

بين النسيان والبقاء، والموت والحياة كنّا نتأرجح، فالحياة لا تقبل منا إلا أن ننسى مالا يشبهها، فإن اخترنا مالا يشبهها، وتشبثنا بالذكريات، صبرنا على هفوات الحنين والألم، تركتنا في الخلف مع آلاف المنسيين.. وإن أقبلنا عليها جذبتنا للبعيد، نتماهى معها، لا نشعر بتناقضاتنا.. لكني ألممت بتناقضاتي مبكرًا، فثقلت نفسي عليّ وضقت منها ذعرًا، وكدت أن أتوقف عن المقاومة وأدع عدوي يفعل فيّ ما يفعل.

 

وجوم:

لطالما كانت الحقيقة ذات وقعٍ مدوٍ، تزلزل القلب، تستفز الدمع، تزعزع المشاعر والأفكار القديمة، والأهم من هذا تختبر كل من ظن أنه شجرة ثابتة، لا تنحني للظروف. في حضرة الاختبار، تسلل اليأس لقلبي، يحكم قبضته في الأيام التي لا أجد فيها ما أحدث أخي عنه، فالنسيان تمكن مني حينذاك.. أقف أمامه وهو الذي لا يعرف من أنا، مرتدية رداء الصمت الذي يحوم في الغرفة.

البحث المضنى عمّا يعزي، الخطوة التي خطوتها نحو الوراء، أعادتني للعهد الأول.. حيث المكان الذي لا تدركه أبصارنا، الأنهار، والأشجار، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت، أبو البشر "آدم" يتنعم بنعيمٍ لا ينفد، يستظل بظلال الشجر، ويشرب من مياه النهر، كل شيء في متناول اليد عدا شجرة واحدة، أمره الربّ المنان ألا يقربها، لتبدأ المعركة بوسوسة إبليس البغيضة، يعد آدم بالخلود، يعده الملك إن أكل من ثمار الشجرة المحظورة، وساوس تشق الأنفاس، ووعود خداعة إما بالملك وإما بالخلود.. يزلُّ أبو البشر ويأكل من ثمار الشجرة فيقول الله تعالى في فعلته: ((وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين))

 

((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزمًا))

لقد نسي أبونا آدم ما كلفه الله به، بل نسي أن الشيطان عدوه وخصمه، وربما تكون نفس الإنسان العدو، إذا ما استحكمت رغباتها، ثبطت الهمة ومحي العزم، تحط الإنسان من أرقى المستويات البشرية لأدناها، تزل الأقدام وينتصر العدو.

يحدث الحبيب -اللهم صلى وسلم عليه- عن حادثة أخرى جرت لأبينا فيقول: ((لَّما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمةٍ هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل عيني كلّ إنسان منهم وبيصًا من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أي ربِّ من هؤلاء قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلًا منهم فأعجبه وبيض ما بين عينيه فقال: أي ربِّ من هذا؟ فقال: رجلٌ آخر من ذريتك يُقال له داود، قال: أي ربِّ كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنةً، قال: أي ربِّ زده من عمري أربعين سنةً فلمّا انقضى عمر آدم جاء ملك الموت فقال آدم: أولم يبقَ من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود قال فجحد وجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطئ فخطئت ذريته.))

 " فجرى على آدم ما جرى، فصار عبرة لذريته، وصارت طبائعهم مثل طبيعته، نسي آدم فنسيت ذريته، وخطى فخطئوا، ولم يثبت على العزم المؤكد، وهم كذلك، وبادر بالتوبة من خطيئته، وأقر بها واعترف، فغفر له الرحيم، ومن شابه أباه فما ظلم. " تفسير السعدي.

تتكرر الأحداث وكأنها وليدة لحظة، يأخذ النسيان الإنسان مع أول احتفاء تقدمه الحياة، أول خدعة توهمه بها، وهي الخلاص من وجعٍ تغلغل في القلب، فتهفت العزيمة وتلتهب الحاجة لتلك الراحة، ولا يعين على تحقيقها إلا عدو مريد، يحسن الإيهام كالنسيان.

حسنًا، ماذا عساي أفعل؟ كيف أحقق انتصارَا على عدوي.. أليس ورائي أن تراخت عزيمتي، وجنّت رغباتي، إلا الاستسلام؟

ربما، لكن رحمة ربي الواسعة، إذ البصيرة تنبثق من الظلماء، تكشف لي السراب المتخيل، في مشاهد عايشتها تحت مرأى العين، بطلها الموت.. يسلب الأرواح تباعًا في المستشفى، شهدته ثلاث مرات، بوقعه الثقيل سمعت صوته المهيب، وسحب روحي التائهة بكليته.. وفي وسط كل الأشياء كان الموت يخرج بهيبته التي تخشّع النفس، ليذكر ويزلزل.  وكان يفعل، فبمجرد أن غفلت وذبت مع الحياة، رن الهاتف مخبرًا: " قد لا نستطيع إنعاش الفتى إن أصابه شيء، فجسده لا يحتمل ذلك"

كان الموت الواضح، يهمس في أذني مرة أخرى ليخبرني: لا انتصار، على عدو إن لم تروض هذه النفس، النفس التي لا تطال الكمال -فالكمال لخالق الأكوان-، لا انتصار لها إلا بإرادة قوية تخلصها مما يشغلها ويوهمها وهمًا مزيفًا بالراحة، فإن اقصيت أهم مذكر بحجة ثقله، ما شحذت همة، ولا قويت عزيمة. فكفى به واعظًا.

لذا حاولت أن أعالج نوازع قلبي ما استطعت، أبصر الموت في كل باعثٍ للحياة، أجدد ما استطعت من الذكريات، أُحييها في نفسي، أقاوم عدوي بالرضا، حتى لو نُبذت في الخلف زمنًا. لا بأس. 

وفي كل زيارة لأخي أهديه ذكرى حفرت ليالٍ بحثًا عنها، علّها تشعل سراجًا في ظلمته.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

عزاء النفس

الأرض المجهولة