ما لم تقله الباسقة.


 

في الفضاء الشاسع تبتلع الرمال كل الأشياء، تغطي عرض الصحراء الكبرى، ظاهرها كباطنها السحيق، يحسه المرء كلما توغل في أعماقها، أكثر جمالًا واكتمالًا. دفعني الفضول لاكتشفها، فتنقلت في نواحيها منفردًا، أجوب ما قدرني الله أنّ أجوبه، فاحصًا إياها بعين فكري، أتلقى ما توحي به من معانٍ مجردة.. هي المتجردة من كل مظاهر العمران الكاذبة، كل نبوءة تكشفها، صادقة. لم تبح بها لأي أحد.

تمرّ أيام، تحن فيها الصحراء على الوحيد المنفرد، تكشف أسرارها في هدوء محبب، أحدق في السماء، يصفو الذهن، يتطهر من أدرانه، منظر السماء مرصعة بالنجوم، والأرض الفسيحة الممتدة، والرمال الناعمة.. السماء والأرض وهما يتقاطعان في بعدٍ واحد، لا نهاية له تحت مرأى العين. صورة بها من التفاصيل ما يأخذ بمجامع القلب.

ثم تأتي تلك الأيام، فتقسو بشدة، أفقد حواسي من كثرة الأوهام، تتوه دروبي، ويأخذ الخوف يتدفق في روحي، كمن لم تطأ قدماه صحارٍ من قبل.. أرى نفسي مسكينًا شقيًا، تسلب مني بوارق الأمل؛ في إيجاد ما يشبه الحياة في هذا الشاسع. يثار السؤال "ألاّ تتفجر حياة من الجرداء المقفرة؟"

***
 
 أسير هائمًا على وجهي، تزحف الكثبان نحوي، محاولة ردعي، دفني حيًا كلما واصلت المسير.. أفكر في المجهول الذي ينتظرني، في النبوءة التي أبحث عنها واستحث الخطى لأجلها..  يشتد هذياني، ينمو الذعر. إن ارتقاب المجهول؛ أشد هولًا وزعزعة من حالي الآن، يجعلني عاجزًا عن المواصلة، مستسلمًا لمصير خلقته مخاوفي. 

في هذه الحال النفسية التي كنت أعيشها، لم أملك خيارًا إلّا الاستعانة بخيالي الخصب، يوهمني بحياة تتفجر من وسط الصحراء، أرض روض تنبع منها المياه العذبة، أرتشف الماء، آكل الثمار فرحًا، راضيًا عن الكبرى.

أعترف بأني أفقد إحساسي بالحياة، التي تمدني بها أخيلتي في أكثر الأحايين، وتطغى المخاوف في انتظار المصير، تفرض عليّ الصحراء الهدوء فرضًا، لكيلا أفقد ثباتي.. آه كيف أقي روحي وطأة الخوف وأنا لا أرى سوى الأوهام؟ 


في ليلة ساكنة، سخية بالنسيم العليل، والبدر يتوسط صدر السماء، عنّ لي مواصلة السير لبعض أميال.. أتشاغل عن وحشة الليل الأليل، برؤية البدر الوهاج، أتحول فجأة لزرقاء اليمامة؛ تفوق دقتي دقتها.. ألمح ظلًا منعكسًا من البعيد، لهول المفاجأة تسكن حركتي، ثم تغلبني الرغبة، وزفت إليه لأتبينه.. إذا بباسقة منفردة، تحف السماء، ينعكس عليها النور، يتمايل عرجونها من الثمر.. هززتها، وارتفع صوت في الملأ: من ذا الذي أيقظني من منامي؟

: أوهم ما أراه؟ وجودك وهذه الثمار.. أوهم هو؟

: ليس وهمًا، لا يوجد أصدق مما تراه الآن.

أجثو على الرمال باكيًا: لم أستطع الانتظار أكثر، بحثت عنك، عن الحياة هنا. لست نسجًا من خيالي، أنتِ الحقيقة.

تردف بصوت مشفق: اهدأ، واسترح، وكل ما شئت من الثمر.. فطريقك طويلة، وأخشى عليك الانهيار.. فإن ابتعدت عني، غطتك الرمال، ولا صوت بعدها يعلو على الموت. لا تبرح المكان، إلا وقد تزودت.

لم أفكر في كلامها مرتين؛ كانت الحقيقة التي انتظرتها. أتزود، أملأ حقيبتي بما تجود به، وما تجود به كثير.. أريح جسدي المنهك على جذعها، يغطيني الظل الوارف، ترخي ريح النسيم أريجها علينا، تتبدد الوحشة بقربها.. أسامرها: منذ متى وأنت هنا؟ احكي لي

: لا سرّ، أعيش هنا منذ آلاف السنين، أشد تجذرًا من أيّ شيء، أقاوم الرياح العاتية، وأشعة الشمس الحارقة.. مرّ بي من أمثالك الكثير، أجود عليهم بما عندي، ثم يرحلون مبتعدين، لا يلتفتون.. من هنا أراهم على الرغم من مرور السنين.

تعتدل قامتي.. أسألها بحماسة: إذن، لست أول من أوصلته الدروب إلى هنا، لكن إلى أي وجهة يرتحلون؟

: إلى أغلى ما تعطيه الصحراء للتائهين، إلى أرض لا ينضب ماؤها، خضراء يكثر فيها الشجر والنخل، كل نواحيها تعطي شيئًا وتحكي. تزودك حتى تمتلئ، من بعد وحشية الصحراء، هي ما ينتهي إليه المرء، تستقبله ضاحكة، منبسطة.

تعلو الدهشة ملامحي، لست أصدق ما أسمعه، يتسلل الخوف لداخلي، تريبني الشكوك " أهذا خيال؟"، سيبهجني أن أكون مخطئًا في ظني... 
أرهف السمع، تكمل حديثها: قبل آلاف السنين، مرّ من هنا جمع غفير، ترى الشقاء على وجوههم، والفزع في قلوبهم، يبحثون عن المستراح، وليس يجدونه هنا. حدثوني عن بابل، تلك المدينة التي ارتحلوا منها، عن أصولهم الكلدانية.. وكيف أمسوا-بعد أن كانوا أعزة في ديارهم- هائمين على وجوههم، يطلبون الأمان في أرضٍ تقبلهم.. أشفقت عليهم، وحدثتهم عن نبع ماء قريب. كان وجودي في هذا الفضاء، يثير الأمل في نفوسهم، يغذّي إحساسهم بقرب الأرض المنشودة، بقرب المسافات البعيدة.

لكن دعني أخبرك، في هذه الصحراء يجب ألا يكترث المرء بالمسافات، تحتاج المدد من الله والشجاعة لتتغلب على أوهامك، حينها تصل لمرغوبك.

سألتها متلهفًا: وهل تغلبوا على أوهامهم؟ ووجدوا تلك الأرض؟

: نعم، سكنوها وعمروها.. ثم توالت السنين وأتى قوم بعد القوم، وظلت الأحوال تتقلب بتلك الأرض، ولا تزال تستقبل التائهين متبسمة.

: ما اسمها؟ وما السبيل إليها؟

لا ينمحي اسمها من ذاكرة الصحراء؛ لأنها ولدت منها.. واحة بهية، متباعدة الأطراف، غنّاء توحي لك بالأسرار. هي هجر،البحرين، الحسا، وأرض النخيل التي أنتمي إليها..  تهبط فيها الطيور أسرابًا، يرتشفون الماء على مهل.. فأبصر السماء، والأرض في تبدل ألوان رمالها، تدركها. ولا تنسَ تحسّي آثار الأبل فإليها ترتحل، ومتى عرضت عليك هذه الصور، فاعلم أنك قد وصلت.

 

شكرت للباسقة ليلتها التي آنست وحشتي، ثم انطلقت إلى وجهتي، أستحث الخطى للوصول، يتوقد الأمل في داخلي، أشعله بكلمات تلك الباسقة.. وكما لو كنت في أبهج أيامي، أتامل، أناجي، أحلم.. كل شيء يمرّ على عيني يعود بي إلى الحياة.  أتتبع خطى العيس، أحدق في الرمال باهتمام لم أعهده، لم أسمح للمخاوف أن تتسلل لروحي.


تمر الليالي بهدوء، يرفع الحجاب بيني وبين الواحة، تشرق الشمس رويدًا رويدًا تكشف عن أرضٍ منبسطة، ليس فيها جبال ولا آكام، يهب نسيم الأصيل، يتحرك بحرية لا يقف في وجهه إلاّ الآجام المترامية، والنخيل المتجذرة في الأرض، بظلالها الوارفة، درع يحمي ويحرس هذه الأرض.. يستتب الهدوء في نفسي، أحوم ببصري في السماء، ها هي الطيور باسطة أجنحتها. إنها نبوءة الباسقة.


***


" كل ناحية في هذه الأرض تحكي وتعطي"

 هذا ما باحت به الباسقة، وما كذبت. تعيش الحسا في اسمها، تكتنز الماء في باطنها، تفجره نهرًا جاريًا، مياهه صافية ندية، يحد المرء أن يتلذذ برذاذه البارد، ويتطهر من وعثاء الصحراء.. استقبلني نهر" سليسل"، أخذني في سلسلة متصلة، لتلك القرى والمروج المخضرة، لم أصدق ما رأيت، الشجر والنخل الغزير، والعيون الضخمة مغمورة بالمياه، تسقي الثمار المتدلية من الشجر، الرمان، الليمون، التين، الخوخ...
أينما توجهت، تكشفت لي أسرارها.. تكشف عن أغلى ما تكتنزه، في شرقها أبصرت بحرها الواسع، يتلألأ تحت أشعة الشمس، تتقاطع زرقته الحادة مع زرقة السماء، تتلاطم أمواجه، مكتظٌ بالناس، عامرٌ بالحياة.. أقلب طرفي، هناك السفن تمخر العباب، محملة بالزاد، والناس فيها منشغلين، يبيعون ويشترون.. عرفت منهم أني في ميناء " العجير"، مدينة قديمة سكنها " الكلدانيون"، شيدوا أراضيهم بحجارة أخرجوها من باطنها، يبتاعونها في سوقهم هذا، حجارة الملح التي تكثر في هذا المكان.. حتى بارك الله في رزقهم، فأخذت التجارة تتنوع، وتتبدل بتبدل الأحوال، وتتابع الأقوام.
 
أجيل نظري في ما يعمله هؤلاء الطيبون، أرمقهم باهتمام 
لا يشاركني فيه أحد، منهم من ينحت الحجارة في صمت، ترتسم على وجهه ابتسامة بشوشة، ومنهم من يحرث الأرض الواسعة، ينثر فيها البذور، ويغرس الزروع، تغني فوق رأسه الطيور، يتمايل مع كل حركة بهدوء ومهل، وسلاسة كجريان النهر.. 
كان لمرآهم أبقى الأثر على نفسي، إذ تنبسط دواخلي انبساطهم، وتميل خطاي للتريث، وأكون إلى التمهل والتعقل أقرب، فما يزعجني الشيء إلاّ وتأملت فيه بتعقل، أخذ أبرز ما يفيد، وأركن ما تعقد. وأراهم، يشبهوني تبدو على وجوههم آثار الصحراء، وعلامات الرضا بما جادت به عليهم. كأني منهم، أذوب معهم.
 
قيل لي " أن أردت التشبع، فاذهب إلى أعلى قمة في الشبعان"
 
الصور التي رأيتها في قمته تنجيني -في كل مرة- من ذكريات الشقاء، والأوهام التي كادت أن تودي بي، وإذ أراني محوطًا بالنخيل والعيون والثمار، تلتف من حول " الشبعان" المياه والنخيل الغزيرة، تغطيه، تنسجم معه، يألفه الناس ويحبونه، لا يملون النظر لواحتهم البهية من قمته. 
أطلق سراح النظر تجتلي لأبعد نقطة في هذه الأرض. تتحرر روحي من أعبائها، تحس الأرواح من حولها، صوت هؤلاء الطيبين، من قادتهم خطاهم إلى هنا، لا يجعلوني أشعر بالغربة، يغذّون قلبي بعواطف الحنان..  وصوت أعرفه جيدًا يحدثني : أوصلت لمرغوبك؟

تنهمر دموعي.. أجيبها : نعم، لقد صدقت نبوءتك أيتها الباسقة.
: وماذا رأيت؟

: ما لم تحدثيني عنه.. لعلّك رأيت آثار الحياة تشع مني. كنت هنا في كل مكان، تتبعين خطاي، تعطيني، وتحكين لي، أول من سكن هذه الأرض، هنا انتماؤك . 

تعليقات

  1. وكأني أمشي معك..
    سلمت يداك ❤️

    ردحذف
  2. ليتني أزور قمة "الشبعان"..
    في التدوينة كثير من السجع الخفي الذي يزيدها جمالا.. ❤️

    ردحذف
    الردود
    1. يومًا ما، من قمتها ترون الباسقة وتحدثونها..
      شكرًا يا مجهول

      حذف

إرسال تعليق

التعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

عزاء النفس

الأرض المجهولة