لم تكن يومًا نهاية.

  مضى على عملي في إحدى المدارس العالمية شهرين ونيف، بعد انقطاع عن الحياة الاجتماعية، أسحب لزخم الحياة، في مكان يكتظ بالأرواح.. يخيلّ إلي أنّ الصمت الذي لازمني شهورًا طويلة، ستنقض عليه حيوية هذه الأرواح؛ لكنه ازداد حدة. 
للصمت السطوة الأكبر، يطبق -في أكثر الأحايين- على العاملين في المدرسة.. ولندرة الالتقاء يد خفية، تبقينا -متى ما ألتقينا- صامتين، ولاختلاط الأعراق في المدرسة ذات اليد، التي تحرمنا سماع العربية والتحدث بها بعفوية، فنأثر الصمت على الحديث.


لا يصبح الصمت عذبًا، إلاّ في أحضان الطبيعة الخضراء، في وسط الأشجار المعمرة.. وفي المدرسة منها العديد، تحت وطأتها، ومفاتنها، وأصواتها؛ تتبدد الوحشة المتوغلة في الصدر، يتوقف الزمن المتسارع عن الحركة، الزمن الذي يذكرني بقرب النهاية.. 
تصبح اللحظة أكثر إغراًء، عندما يخالجها نغم جميل، تألف نفسي سماعه.. في الزاوية المنعزلة، تجلس إحدى العاملات هربًا من وحشة الخارج.. تنشد ما شاء الله أن تنشد، بأعذب الألحان، نتفتح كمّا الزهور مع ألحان السرور، وما إن تتوقف أرمقها بنظرة ود، تفهمها وتكمل. 


تنسل هي، أنسل أنا، تجمعنا الحديقة المخضرة في أوقات ندركها، ولم نحددها، نعرف حق المعرفة أننا هاربتين من شعور ما، نخلعه قبل دخولنا إلى الحديقة، نعايش مشاعر نطرب لها، أكثر حياة وحسن. 
لا نتحدث كثيرًا، وحدها الايماءات الطيبة كل صباح، والتحيات النقية، والألحان العذبة.. كنّا نعي أننا لا نود لتلك الأعباء التي تثقل كواهلنا، أن تتسلل لهذا المكان. يطول بنا الحال، تلك الأحوال اللذيذة التي يركن إليها المرء، فتظهر أجمل ما فيه، تشرق نفسه وتنكشف، دون حائل أو عائق..إذا لا تمضي الأيام إلاّ بالعيش بها ولها.

خارج الحديقة، تكبر الهواجس، بالنسبة لأشخاص يتحركون في هامش الأحداث المتتابعة، ندرك أن النهاية لا مفرَّ منها.. لكن طبيعتي الآخذة في التوقد، كانت تميل لعالم البصمة والأثر، خلق نهايات كالبدايات، لها ديمومتها الخاصة. أمر صعب. 
كل مرة أحملق في السماء، يمرّ الوقت، تسطع شمس، يبرز ظل لا يرى، يتلاشى دون أن يتنبه إليه أحد. يستعصي على ذهني فهم هذه المعادلة السهلة، تلاشي الشيء دون رؤيته وإدراكه.

هذا الشعور الذي غذته الذكريات الصعبة والذي أنمته على مدار السنين، حملني أن أبحث عن إجابة تنهي بؤس" النهايات" وما يلتصق بها من سواد.. إذا ليس من العدل أن تكون كل نهاية حزينة، يتملص المرء من ذكراها؛ خوفًا من ضعفٍ ينتزع روحه. وليس من العدل أن تلتصق بي هالة الرحيل في كل مرة أحلّ فيها بمكان جديد، سواء دبت في داخلي من تلقاء نفسها، أو فرضها علي المكان ذاته.

تشغل بالي الأفكار، تتآكل روحي منها، تأتي تلك الأيام التي أتعمد فيها، جلبها لداخل الحديقة.. أحكي -على مضض- عن الرحيل.. أذكر تعمدي سؤال السيدة صاحبة الصوت الجميل.. أقول لها: برأيك، كيف نجعل من النهايات بدايات؟  كيف تكون النهاية سعيدة؟
تضحك وتقول: لا أظن أن عندي جوابًا واضحًا.
 
أجبرني جفاف حديثي، وثقل تفكيري على الغياب.. لم أجنِ من الأفكار إلّا تلطيخ هالة المكان الحيّ، فليس من ذنب إن غبّت عنه. يلوح شبح الرحيل في أشد اللحظات انفجارًا بالحياة، يسرقني من بين صرخات الأطفال ولعبهم، وتدافع الطالبات وضحكهن، يعيدني صوت مديرة المدرسة.. تهمس لي: آمنة، هلّا سلمت هذه الأوراق لنهاية.

أنظر إليها والاستنكار يعلو وجهي..: من نهاية؟
 
تشير بأصبعها بعبثية لمكان ما، أذهب إليه وفي يدي كومة الأوراق، أطرق الباب.. ثم أقول: من هي نهاية؟
 
تبرز من بين العاملات، صاحبة الصوت العذاب باسمة..: أنا.
 
أسلمها الأوراق والدهشة تعلو وجهي، تتبسم، ثم تمرّ مبتعدة كمّا السحاب... أهذه نهاية؟ 

في تلك الحديقة، كانت تجلس نهاية، أزورها كل يوم، أحدثها، تعيدنا إلى الحياة، حين تبتلعنا الأفكار، وبأقل قدر من الكلمات.. في هدوء يولد في القلب نقاوة، ويمحو شوائب الأفكار. نخرج لمجابهة بداية، في ذات اليوم، بين هذه الثنائية. تبدو النهاية التي أخافها، في منتهى البهاء.

كمّا لو كانت تدفعني على المضي، دائرة متواصلة، تحثني على عيش اللحظة، والإقدام على الحاضر دون خوف أو تردد، لم تكن إلّا سعادة خالصة، ذات ديمومة تسبر في غور النفس.. إذا انتهت لا تثير فيني آسفًا، بل تحملني دائمًا على البحث عمّا يشبهها.


تعليقات

  1. آمنه يا آمنه شنو قاعده تسوين فينا

    ردحذف
  2. واخيراً تدوينة جديدة اشتقنا

    ردحذف

إرسال تعليق

التعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسائل معلقة

عزاء النفس

الأرض المجهولة